الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
آيات من الذكر الحكيم عن ذات الله العليّة:
أيُّها الإخوة المؤمنون: مع الدرس السابع والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الثالثة والستين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)﴾
الله عزَّ وجل حينما يتكلم عن ذاته العليّة، يقول أحياناً:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
ويقول أحياناً: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ، ويقول أحياناً أُخرى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ (12)﴾
من مقتضيات كمال الله عزَّ وجل أن ينزل الكتب وأن يرسل الأنبياء والرسل:
إذا كان الحديث عن ذات الله (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا) وإذا كان الحديث عن أفعاله، فأفعاله تشترك فيها معظم أسمائه، فقد يقع فعلٌ من أفعاله فيه رحمةٌ، وفيه علمٌ، وفيه عدلٌ، وفيه حكمةٌ، فإذا كان الحديث عن أفعاله تُستَخدَم أداة إنَّا أو نحن، وإذا كان الحديث عن ذاته تُستخدَم أداة (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) .
على كلٍّ أيُّها الإخوة: يقتضي كمال الله ألّا يدَع عباده من دون رسالات، كما أنَّ الأب الذي ينطوي على رحمةٍ، إن رأى ابنه يقترب من مدفأةٍ مُشتعلة لا يمكن إلا أن يردعه، وينهاه، ويوجهه، شيء طبيعي، من مقتضيات كمال الله عزَّ وجل أن يُنزِل الكُتُب، وأن يُرسِل الأنبياء والرُسل، لكن كل هؤلاء الأنبياء يدعون دعوةً واحدة:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
فالدين واحد هو الإسلام:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
جوهر الدين أن تخضع لله، الكُفرُ أن تخضع لشهوتك أن تُحقِّق مُرادك، بينما جوهر الدين أن تُحقِّق مُراد الله عزَّ وجل، العبد عبدٌ، والربُّ ربّ، شأن العبد أن يُطيع سيده، فحقيقة الدين خضوع، خضوع بماذا؟ وأنت في هذه الدنيا أودَع الله فيك الشهوات، والشهوات يمكن أن تتحرك بسببها حركةً واسعةً جداً، كما هي حال أهل الدنيا، ولكن المؤمن مُنضبِط بالقرآن الكريم، بالمنهج القويم، مُنضبِط بما سمح الله له به من هذه الشهوات أن يتحرك بها، فالدين كله ضبط، المؤمن لا يكسِبُ إلا المال الحلال، يضبط دخله ولا ينفقه إلا في وجهٍ مشروع، يضبط إنفاقه، ويضبط عينه فلا ينظر إلى عورةٍ لا تحلُّ له، ويضبط لسانه فلا ينطق بغيبةٍ، ولا بنميمةٍ، ولا ببُهتانٍ، ولا بمُحاكاةٍ، ولا بسُخريةٍ، ولا باستهزاءٍ، وما شاكل ذلك.
إن أردت أن تضغط الدين كله بكلمةٍ واحدة إنه الضبط، المؤمن منضبط.
(( الإيمانُ قَيَّدَ الفتْكَ، لا يَفتِكُ مؤمنٌ. ))
[ أخرجه أبي داوود وشُعيب الأرناؤوط ]
المؤمن يُحاسِب نفسه حساباً دقيقاً جداً، فإذا رأيت إنساناً مُتفلِّتاً فالتفلُّت من نتائج ضعف الإيمان، والإجرام من نتائج انعدام الإيمان، وإن رأيت إنساناً منضبطاً فالانضباط من لوازم أهل الإيمان، فسيدنا نوح: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ) .
أيُّها الإخوة: هناك عقلٌ أودعه الله في الإنسان، العقل قوة إدراكية، لكن تعتمد على التحليل، والتركيب، والاستنباط، والاستنتاج، والمحاكمة، والتصوُّر، ويوجد في الإنسان فِطرة، الفِطرة تكشف له الحقيقة، ولكن بشكلٍ نفسي، بشكلٍ روحي يُحبّ ولا يُحبّ، يرتاح ولا يرتاح، يقلق ولا يقلق، فالإنسان مفطور فطرة عالية جداً، بحيث أنَّ هذه الفطرة تكشف له خطأه بشكلٍ ذاتي، وأودع الله فيه عقلاً يكشف له الحقيقة، لكن العقل قد يذل، وقد يضل، العقل مرتبط بالواقع، والعقل مرتبط بالمصالح، والعقل مرتبط بالأهواء، إذاً العقل وحده من دون وحيٍّ يُسدِّده لا يُعَد مرجعاً، كما أنَّ العين وحدها من دون ضوءٍ يكون وسيطاً بينها وبين المرئيات لا قيمة لها، والعقل كذلك.
فالعقل قد يضل، هو أداة معرفة الله، لكن وحده لا يكفي، كيف لا يكفي؟ عقلك يقول: لا بُدَّ لهذا الكون من خالق، الوحي يقول لك: الخالق هو الله، عقلك يقول: لا بُدَّ لهذه الحياة من هدف، الوحي يقول لك: الهدف هو أن تَعبُد الله في الدنيا، فتسعد بقربه إلى أبد الآبدين، العقل يقول لك: ينبغي أن تستمتع بكل شيء، الوحي يقول لك: لا، ينبغي أن تستمتع بما لا يُبنى الاستمتاع به على الإضرار بالآخرين، هناك حدود.
لو أنَّ إنساناً أغوى فتاة، هذه الفتاة حينما أغواها، ثم ألقاها جعلها ساقطة، هو استمتع، لكنه أسقطها من حساب قيَم المجتمع، دائماً وأبداً لا تُبنى منفعةٌ على مَضرَّة، فالإنسان يرغب أن يستمتع، لكن الوحي يقول له: استمتع فيما لا إضرار منه، المنفعة المتبادلة مشروعة، أمّا المنفعة التي تُبنى على مضرَّةٍ مرفوضة، الوحي يُكمِّل العقل، والوحي يُكمِّل الفِطرة، الفِطرة مقياسٌ نفسي:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
الفطرة تنقبض، تتضايق، تنشرح، ترتاح، تنزعج، الفطرة جِبلّة نفسية مُبرمجة وفق منهج الله، فكل إنسانٍ خرج عن منهج الله تُعذبه فطرته، وكل إنسان أطاع الله فطرته تكافئهُ بالراحة، بالطمأنينة، الأنبياء جميعاً دعوتهم واحدة، لكن تشريعاتهم متباينة: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) .
طبعاً في القرآن الكريم ذُكِر عدد كبير من الأنبياء، ولعلَّ هذه الآية من أطول الآيات التي ورَدَ فيها ذكر أسماء الأنبياء، ولكن القاعدة أنَّ الأنبياء والرُسل منهم من قصَّ الله علينا، ومنهم من لم يقصَّ علينا، إذاً ما كل نبيٍ ورَدَ ذكره في القرآن الكريم (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) .
النقطة الدقيقة أنَّ هؤلاء الأنبياء لا نُفرِّق بين واحدٍ منهم، دعوتهم واحدة، تشريعاتهم متباينة بحسب الظروف والأحوال، عاش بها أقوامهم.
الإنسان مفطور ومجبول على خصائص منها أنَّ الإنسان خلق ضعيفاً:
﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)﴾
الإنسان حينما يشعر أن هذه الدعوة واحدة يرتاح، بالمناسبة ما بال أُناسٍ يؤمنون بأديانٍ من صنع البشر؟ الحقيقة الإنسان مفطور ومجبول على خصائص، من هذه الخصائص:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)﴾
﴿ وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11)﴾
خُلِق عجولاً، وخُلِق هلوعاً، جزوعاً، منوعاً، وخُلِق ضعيفاً، هذه نقاطُ ضعفٍ في أصل بُنية الإنسان، أو في أصل خلق الإنسان، لا يُحاسَب عليها، لكن هذه النقاط لصالحه، فالإنسان يشعر بحاجةٍ قويةٍ جداً إلى جهةٍ يعتمد عليها، إلى جهةٍ يركن إليها، إلى جهةٍ تحميه، إلى جهةٍ تُسدده، إلى جهةٍ تكافئه، هذا أصل التدين، وقد فُطِر الإنسان هذه الفِطر من ضعفٍ إلى استعجالٍ، إلى هلعٍ، إلى جزعٍ، من أجل أن يبحث عن خالقه فيسعد بقربه.
تفضل الله على الإنسان بالرسالة والإيمان وهي نعمة لا يعرفها إلا من فقدها:
فالإنسان إن لم يهتدِ إلى خالق السماوات والأرض، لعلَّه يتخذ من دون الله إلهاً من الأرض يعبده من دون الله، حتى الذين يعبدون من دون الله آلهةً إنهم يُحقِّقون رغبتهم، إلى أن يخضعوا إلى قويٍ يحميهم من الضعف الذي هُم فيه.
(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) هؤلاء الرسل معهم منهج، قد يستغرب واحدٌ منّا، مئات الملايين يتبعون ديناً من صنع البشر، التفسير سهل جداً، الأديان الوضعية ليس فيها تكاليف فيها طقوس، ليس فيها عبادات فيها طقوس، ليس فيها تكاليف فيها ولاء، الإسلام فيه تكليف، فيه أمرٌ ونهي، فيه شيءٌ حرام، فيه شيءٌ حلال، فيه شيءٌ واجب، فيه مجموعة تكاليف هذه تقتضي كُلفةً وجهداً، أمّا الأديان التي وضعها الإنسان، فيها بدل التكليف الولاء، أعلِن ولاءك وأنت من أتباع هذه الديانة، وفيها بدل العبادات التي تُعلَّل بمصالح الخلق، فيها طقوس، حركاتٌ وسكناتٌ وتمتماتٌ لا معنى لها.
فأنت حينما تطلِع على ديانات أهل الأرض، تشكر الله عزَّ وجل أن هداك إليه، فأقوامٌ كُثُر في شرقي آسيا يعبدون ماذا؟ يعبدون الجُرذان، وعندي تحقيقٌ في مجلةٍ رصينةٍ تصف هؤلاء، وتُقدِّم صوراً دقيقةً لمعابدهم، وأُناسٌ يعبدون النار، وأُناسٌ يعبدون الشمس والقمر، وأُناسٌ يعبدون الحجر، وأُناسٌ يعبدون الموج، وهكذا الإنسان لضعفه ولضلاله عن خالقه، يعبد جهةً يتوهمُها قويةً، فالحقيقة أنَّ الله عزَّ وجل تفضَّل علينا بهذه الرسالة، وتفضَّل علينا بهذا الإيمان، وهي نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها.
سمعت أن مهندساً كبيراً في العالم يُعَد أحد خمسة مهندسين في العالم، أنشأ ثاني أطول جسرٍ في إسطنبول، يربط بين قارة آسيا وأوربا، وفي يوم افتتاح هذا الجسر، وهو يُعَد من خمسة مهندسين في العالم، والجسر مُعلَّق بالحبال الفولاذية، ويجتازه في اليوم أربعمئة ألف سيارة، ألقى بنفسه في البوسفور منتحراً، فلمّا ذهبوا إلى غرفته في الفندق وجدوا ورقةً كُتب فيها: لقد وصلت إلى قمة المجد، وذقت كل ما في الحياة، فلم أجد لها طعماً، فأردت أن أذوق طعم الموت.
المؤمن حقق السعادة لأنه عرف سرّ وجوده وغاية وجوده:
إنسانٌ بلا هدف، قد يُحقِّق نجاحاً كبيراً، لكن المؤمن إنسانٌ آخر، إنسانٌ له هدف، هدفه واضحٌ كالشمس، قد تأتيه متاعب، ولكن هدفه الكبير والوسائل النبيلة التي يختارها لهذا الهدف، قد تنسيه كل المتاعب لهذا الهدف، ما من شيءٍ مُتعبٍ كإنسانٍ ضائع، كإنسانٍ شاردٍ لا يعرف لِمَ خلقه الله عزَّ وجل، خُذ مئة شخصٍ من الطريق واسألهم: لماذا أنت في الدنيا؟ لا يعرف سر وجوده، ولا غاية وجوده، لذلك حركته عشوائية، أنت حينما تعرف سِرَّ وجودك تنضبط الأمور، وبشيءٍ بسيطٍ جداً من المحاكمة، أنت ذاهبٌ إلى هذا البلد كي تعقد صفقة، كل نشاطك في هذا البلد مُنحصِر بالصفقة، كل تطلعاتك إلى البضاعة، أسعار البضاعة، مصادر البضاعة، قيمة البضاعة، ونقل البضاعة، وشحن البضاعة فقط، ذاهب إلى هذا البلد للدراسة، كل نشاطك متعلق بالمناهج، والكتُب، والمراجع، والسكن الجامعي، والأقساط، والأساتذة، والعلاقة معهم.
فأنت لمجرد أن تعرف الهدف الذي خُلقت من أجله، تأتي حركتك اليومية مُطابقةً لهذا الهدف، هذه السعادة، أمّا الذي يجهل سرَّ وجوده، الفكرة دقيقة جداً، الله أعطاك عقلاً، العقل هداك إلى أنَّ هذا الكون يحتاج إلى خالق، يأتي الوحي يقول لك: الخالق هو الله، كل سؤال أو كل حُكم يتوصل إليه العقل ويحتاج إلى جواب، يأتي الوحي ويُجيبه عليه، فالمؤمن يتمتع بشيءٍ لا يعرف قيمته لأنه موجود، أنه مرتاح إلى منظومة أفكار متناسقة مترابطة، عنده تفسير دقيق وعميق وواضح ومنسجم، إلى الكون والحياة والإنسان، أمّا الإنسان الذي لم يطلب العلم عنده ضياع، يتحرك حركة عشوائية، من غير قيَمٍ تجمعه على هدفٍ.
﴿ رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾
الله عزَّ وجل خلق الإنسان، سخَّر له الكون تسخير تعريفٍ وتكريم، كل شيءٍ في الكون يدلك على الله، وكل شيءٍ في الكون إكرامٌ من الله، هناك دلالة وهناك إكرام، تعريف وتكريم، ردُّ فعل التعريف أن تؤمن، وردُّ فعل التكريم أن تشكر.
عِلَّة وجودنا وغاية وجودنا أن نؤمن وأن نشكر المنعم:
وحينما تؤمن وتشكر حقَّقت الهدف من وجودك، لذلك قال تعالى:
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
يجب أن تعلم أن عِلَّة وجودك أن تؤمن، وأن عِلَّة وجودك أن تشكر المُنعِم، المؤمن مع المُنعِم، والكافر مع النعمة، هذا ملخص الملخص، الله سخَّر الكون تسخير تعريفٍ وتكريم، أعطاك عقلاً لو أعملته في خلق الله لهداك إلى حقائق ناصعة، أعطاك فِطرةً لو حافظت على صفائها لكشفتْ لك عن كل أخطائك، الإنسان لا يرتاح إلا إذا طبَّق منهج الله، اصطلح مع فطرته، أصبح هناك انسجام، يقول لك: وجدت نفسي، أعطاك كوناً وعقلاً وفِطرةً، أعطاك شهوة قوة مُحركة، لولا الشهوات ما رأيت على وجه الأرض شيئاً، لولا الشهوات التي أودعها الله في الإنسان، لا يوجد حركة على سطح الأرض، هذه الشهوات قوى مُحرِّكة، إمّا أن تُدمِّر وإمّا أن تبني، إمّا أن تكون سُلَّماً إلى أعلى عليين، أو دركاتٍ إلى أسفل سافلين، أعطاك اختياراً ليُثمَّن عملك، أعطاك كوناً وعقلاً وفِطرةً وشهوةً واختياراً، وفوق كل ذلك، وهذه كلها تكفي، أعطاك تشريعاً، وأنزل كُتباً، وبعثَ رُسلاً، الكتُب والرُسل هذه عطاءٌ تفضُّلي (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أب ألحق ابنه بأعلى مدرسة، ودفع له أعلى قسط، وهيأ له غرفةً خاصة، وهيأ له إنفاقاً جيداً، هذا يكفي كي ينجح بتفوُّق، فضلاً عن ذلك جعل له مدرساً خاصاً يتابع وظائفه، هذا إضافة، هذا الكلام من أين جاء؟ من قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)﴾
والمنّ عطاءٌ زائد.
( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) يعني الله عزَّ وجل كل شيء يدل عليه، وفوق هذا الذي يدل عليه، فوق الكون، وفوق العقل، وفوق الفِطرة، وفوق الشهوة والاختيار، أنزل كُتُباً وبعثَ رُسلاً.
أكبر شيء يمتص متاعب المؤمن أنَّ الله وعده بالجنة:
هؤلاء الرسل والأنبياء (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) يُعطونك مشاهد في الكتُب من يوم القيامة، من حال أهل الجنَّة، يُبشرونهم بالجنَّة.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
قال لي أحدهم: تقول: إن المؤمن سعيد، هو يريد أن يسأل، هو يرى أنَّ المؤمن شأنه كشأن أي إنسان، لا يختلف عن عامة الناس بشيءٍ هكذا يقول، قلت له: ما قولك بإنسانٍ يعاني أشدّ أنواع الفقر، له قريبٌ يملك ملايين مُملينة، توفي بحادثٍ، وهو وريثه الوحيد، فإلى أن يقبض المبلغ الأول، بقي سنتين من أجل تأمين المستلزمات القانونية لانتقال الثروة إليه، لماذا هو في هاتين السنتين أسعد الناس؟ مع أنه لم يقبض درهماً واحداً، دخل في الوعد، قال تعالى:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
فالمؤمن أكبر شيءٍ يمتص كل متاعبه أنَّ الله وعده بالجنَّة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
أنت بعت، والله قد اشترى، والثمن هو الجنَّة، فالمؤمن لا تعنيه الدنيا كثيراً، يعنيه من الدنيا ما يُقيم أوَده، ويستر عورته، ويوفِّر له حاجته فقط، أمّا هذه المُغالاة، وهذا التنافس على حُطام الدنيا هو بعيدٌ عنه.
في القرآن توازن بين الوعد والوعيد وبين البشارة والإنذار:
(رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) هذا توجيهٌ للدُعاة إلى الله، بشِّر وأنذِر، فالذي يعتمد الإنذار فقط يكون قد جانب الحقيقة، والذي يعتمد التبشير فقط يكون قد جانب الحقيقة، هناك دُعاة يُسهِّلون كل شيء، يقول: الله غفور رحيم، كأنه يدعو الناس إلى المعصية، لكن الله يقول:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾
في القرآن توازن بين الوعد والوعيد، بين البِشارة والإنذار، بين الرجاء والخوف، لذلك لا بُدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن خوفٌ من الله، ومحبةٌ له، وتعظيمٌ له، هذا التوازن (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) .
والمؤمن أيُّها الإخوة: إذا توسَّع في حُسن الظن بالله لدرجة أنه تركَ الطاعات، يأتيه تأديبٌ من الله عزَّ وجل، وإذا بالغ في الخوف من الله تأتيه الكُربات، لا بُدَّ من التوازن بين الرجاء والخوف، وبين الرغبة الرهبة، وبين اعتماد البشارة واعتماد الإنذار.
الإله يحتاجه كل شيء في كل شيء:
(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) الشيء العزيز النادر، الشيء العزيز الذي قلَّما يوجد، ويصعُب الوصول إليه، وتشتد الحاجة إليه، هذا الشيء إذا كان عزيزاً، أمّا إذا كان الله عزيزاً أي لا إله غيره، هو واحدٌ أحد، فردٌ صمد، لا تشتد الحاجة إليه بل يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء، الإله يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء، أمّا أن يصعُب الوصول إليه، يستحيل أن تُشابه الإله مستحيل، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تحيط به، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) يعني شيء إن وصلت إليه وصلت إلى كل شيء، وقد ذكر ابن القيِّم في طريق الهجرتين هذا الأثر: "ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كل شيء، والله أحب إليك من كل شيء"
هؤلاء الأنبياء جاؤوا بمناهج، وجاؤوا بكتُب، والكتُب فيها أمرٌ وفيها نهي، ما الذي يؤكِّد لهؤلاء الناس أنَّ هؤلاء الأنبياء هُم أنبياء فعلاً، وأنَّ هؤلاء الرُسُل هُم فعلاً رُسُل؟ قال تعالى:
﴿ لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)﴾
إذا كان هناك من يُنكِر رسالتك (لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) .
هناك عدة شهادات يشهد الله لأنبيائه أنهم أنبياؤه:
أيُّها الإخوة: حينما يشهد الإنسان، يقول: أنا أشهد أن فلاناً أقرض فلاناً مئة ألف، يشهد بلسانه، كيف نُفسِّر شهادة الله لأنبيائه؟ هناك عدة شهادات يشهد الله لأنبيائه أنهم أنبياؤه، ويشهد الله لرُسله أنهم رُسله.
1 ـ تأييد الأنبياء بالمعجزات هي شهادة الله لأنبيائه أنهم أنبياؤه:
حينما يؤيّدهم بالمعجزات، والمُعجزات التي يؤيَّد بها الرُسُل مما تفوَّق به قومهم، قوم سيدنا موسى تفوُّقوا بالسحر، فجاء سيدنا موسى بشيءٍ يفوق عمل السحرة، عَصاةٌ أصبحت ثُعباناً مُبيناً، قوم سيدنا عيسى تفوُّقوا بالطب، فجاء السيد المسيح بإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، فكل نبيٍ يأتي بمعجزةٍ هي خرقٌ للعادات، وفيها تحدٍّ لقومه مما تفوُّقوا به، هذا نوعٌ من الشهادة، المُعجزة شهادة الله لأنبيائه أنهم أنبياؤه، وشهادة الله لرُسله أنهم رُسُله.
2ـ تطابق أفعال الله مع كلامه شهادة الله لأنبيائه أنهم أنبياؤه:
ولكن هناك شهادةٌ أُخرى، قال عزَّ وجل:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
آية بالقرآن، يأتي شابٌ يؤمن بالله، ويعمل صالحاً، يُحس أنه متميز، يشعر بسعادةٍ كبيرة، عنده فكرٌ نيِّر، عنده حكمة، له صِلةٌ بالله، مسرور، يكاد يطير سعادةً، فهذه الحياة الطيِّبة هي شهادة الله لرسوله ولقرآنه أنَّ هذا القرآن كلامه، وأنَّ الذي جاء بهذا الكتاب رسوله.
يأتي إنسانٌ آخر يُعرِض عن ذِكر الله، يعيش حياةً ضنكاً، الأمور كلها ضده، أموره كلها مُعسَّرة، جُهدهُ ضائع، حركته عشوائية، غير موفَّق، غير مُسدَّد، كلما طرق باباً يغلق، كلما طلب شيئاً يُخفِق في تحقيق هذا الشيء، يتضايق، يضجَر، يقرأ الآية:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾
فهذه المعيشة الضنك التي هي من فِعل الله، شهادة الله أنَّ هذا القرآن كلامه، وأنَّ الذي جاء بهذا القرآن رسوله.
يأتي إنسانٌ ثالث يأكل الرِبا، ويجمع أمواله من الرِبا، يقول: هذه الأموال تتنامى عندي، فإذا بمصيبةٍ تمحق كل ماله، يقرأ قوله تعالى:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
عندئذٍ يؤمن أنَّ هذا الذي أتلف ماله هو الذي أنزل هذا القرآن، وهو الذي بعثَ هذا الإنسان كرسول، فتطابُق حركة الكون مع آيات القرآن الكريم، هي شهادة الله للبشر أنَّ هذا القرآن كلامه، وأنَّ الذي جاء بهذا القرآن رسوله، هذه أقوى شهادة، فإمّا أن تكون المُعجزة هي الشهادة، وإمّا أن تكون تطابُق أفعال الله مع كلامه شهادة.
3 ـالإعجاز العلمي في الكتاب والسُنَّة شهادة الله لعباده أن هذا القرآن كلامه:
في كتابنا شهادةٌ ثالثة، حقيقةٌ كُشِفَت قبل سنواتٍ، والذي كَشَفها كاد يطير تألقاً في المجتمع، فإذا بكتاب الله قد ذَكرها قبل ألفٍ وأربعمئة عام، هذا الإعجاز العلمي في الكتاب والسُنَّة، الإعجاز العلمي شهادة الله لعباده أنَّ هذا القرآن كلامه، أشياء كثيرة جداً في الإعجاز العلمي، الله عزَّ وجل ذَكر السمع والبصر، جاء بالسمع قبل البصر في سبع عشرة آية، والحقيقة أنَّ السمع يُشَق في رأس الجنين قبل الولادة، أمّا البصر فبعد الولادة، فهناك سَبق وهناك توافق بين كلام الله والحقائق العلمية.
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
هذه كُشِفَت قبل عشر سنوات، والذي اكتشفها عالمٌ بريطاني كاد لا يُصدِّق نفسه، أنه كَشَف حقيقةً لم يُسبَق إليها، فإذا بطالبٍ مسلمٍ عنده يقول له: هذه في كتاب الله قبل ألفٍ وأربعمئة عام، أشياء كثيرة جداً، كَشفوا أنَّ بين البحرين يوجد حاجزاً، ما معنى قول الله تعالى:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾
رائد من رواد الفضاء رَكِب مركبة وصَعِد بها إلى القمر، بعد أن تجاوز الغلاف الجوي صرخ عن طريق الاتصال اللاسلكي، قال: أصبحنا عُمياً لا نرى شيئاً، والقرآن الكريم يؤكِّد هذه الحقيقة:
﴿ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)﴾
لو أنهم صعدوا في السماء (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) لم يعُد هناك اتصال ضوء، هذه الحقائق من كان يعلمها؟
أخطر إنسان هو الكافر المُكفِّر يحمل أعماله السيئة وأعمال كل من أضلهم عن الله:
إذا قرأت القرآن الكريم، واطّلعت على العلوم الحديثة تشعُر أنَّ الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن، هذا معنى قوله تعالى: (لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) الملائكة يشهدون، سيدنا جبريل هو الذي أوكله الله بإلقاء الوحي على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، والذين يُحصون عمل بني آدم ملائكة أيضاً، يرفعون إلى الله أعمالهم، فهم يشهدون المنهج كيف نَزَل، ويشهدون ردود الفعل كيف كانت، يشهدون في إنزال الكتاب، ويشهدون في رفع الأعمال إلى الله عزَّ وجل (وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) يعني شهادة الملائكة لا تُعزِّز شهادة الله، حاشا لله، ولكن الله يشهد، والملائكة يشهدون.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)﴾
كَفرَ وصدَّ عن سبيل الله، لم يكتفِ أنه كَفر، حمَلَ الناس على أن يكفروا، لم يكتفِ أنه ضلّ، حمَلَ الناس على أن يُضِلّوا، لم يكتفِ أنه فسد، حمَلَ الناس على أن يَفسدوا، أخطر إنسان هو الكافر المُكفِّر، والضال المُضل، والفاسد المُفسِد، يعني هذا يحمل أعماله السيئة، وأعمال كل من أضلَّهم عن الله عزَّ وجل، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) إذا مشى إنسان في الصحراء وضلَّ الطريق، ونفذ ماؤه وزاده فمات، ضلاله انتهى به إلى الموت، فإذا كان مؤمناً دخل الجنَّة، لكن الذي يضل عن الله عزَّ وجل، ضلاله يمتد به إلى أبد الآبدين، هذا معنى الضلال البعيد، أثر الضلال لا ينتهي في الدنيا، الأخطاء المادية في الدنيا تنتهي بالموت.
أمراض الموت تبدأ بعد الموت وتشقي صاحبها إلى الأبد:
لو أنَّ إنساناً عنده كليتان، إحداهما عاطلة عن العمل، فجاء الجرَّاح واستأصل التي تعمل خطأً، انتهى الإنسان، هذا خطأٌ كبير انتهى بالموت، لكن الضلال عن الله عزَّ وجل يمتد إلى أبد الآبدين، هذا معنى الضلال البعيد.
كل إنسان قد يُصاب بمرضٍ، هذه الأمراض كلها تنتهي عند الموت، لكن أمراض القلب تبدأ بعد الموت، وتُشقي صاحبها إلى الأبد، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)﴾
لمّا كَفَر تحرك حركةً من دون منهج، لمّا تحرك حركةً عشوائية من دون منهج، هذه الحركة الطائشة اقتضت أن يكون شقياً في الدنيا وشقياً في الآخرة، إذاً هو ظلم نفسه حينما حملها على معصية الله عزَّ وجل، هو كفر وشَقيَّ بكفره، لو كانت قضية الكفر والإيمان لا علاقة لها بالسعادة والشقاء فالقضية سهلة، لكن الإيمان من لوازمه السعادة، والكُفر من لوازمه الشقاء.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ليس هذا من باب الإجبار، لا، هو عندما كفر بالله ولم يطلب ما عند الله، إذاً ما عند الله حُجِب عنه باختياره:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾
ليس للأبد نهاية فهو طريق دائم:
فهؤلاء الذين كفروا وظلموا :
﴿ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)﴾
ابنٌ اختار ألّا يدرُس، فكل خيرات الدراسة حُجِبت عنه، أمامه طريق الانحراف مثلاً، طريق الفقر، طريق التفاهة في الحياة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) الأبد تعني: ليس لهذا الأبد نهاية، الأبد دائم (وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) .
(( يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالموا يا عبادي إنَّكم تخطئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفرْ لَكم يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلَّا من هديتُهُ فاستَهدوني أَهدِكم يا عبادي كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُهُ فاستطعموني أطعِمْكم يا عبادي إنَّكم لن تبلُغوا ضرِّي فتضرُّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفَعوني. يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منْكم ما زادَ ذلِكَ في مُلْكي شيئًا يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكُم ما نقصَ ذلِكَ من مُلْكي شيئًا يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَهُ ما نقصَ ذلِكَ في مُلكي شيئًا إلَّا كما يَنقصُ البحرُ إن يُغمَسْ فيهِ المِخيَطُ غمسةً واحدَةً يا عبادي إنَّما هيَ أعمالُكم أُحصيها لَكم ثمَّ أوفِّيكم إيَّاها فمن وجدَ خيرًا فليحمدِ اللَّهَ ومن وجدَ غيرَ ذلِكَ فلا يلومنَّ إلَّا نفسَهُ. ))
الذي أعرض عن ذكر الله ليس أمامه إلا النار:
الآية الكريمة:
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
إذا لم يتعرَّف الإنسان إلى الله، ولم يستجب له فهو على طريق جهنم حتماً، هناك أُناسٌ عوام يتكلمون كلاماً لا معنى له، لا تعرف النهاية، إنسان ما توجَّه إلى الله في حياته أبداً، ولا استقام على أمر الله أبداً، ولا أكل الحلال بل أكل الحرام، فهذا ينتظره عذابٌ أليم، فهذا الذي أعرض عن ذكر الله ليس أمامه إلا النار.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) هناك معنىً دقيق في الآية: الطريق الذي رسمه الله عزَّ وجل إلى الجنَّة كفر به، بقي الطريق الآخر، لأنه رفض الدين، رفض الإسلام، رفض طاعة الواحد الديان، سلك الطريق الثاني حتماً، والدليل: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) الحق والباطل، إن اقتربت من الباطل ابتعدت عن الحق حُكماً، إن اقتربت من الحق ابتعدت عن الباطل، فالذي التصق بالباطل إذاً هو في طريق النار، في طريق العذاب الأليم.
حينما ينطلق الإنسان من حبه لذاته ينبغي أن يؤمن:
آخر آيةٍ:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)﴾
أي أنَّ الإنسان حينما ينطلِق ينطلِق من حُبه لذاته، ينبغي أن يُطيع الله عزَّ وجل (قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) .
أيُّها الإخوة: ما من وقتٍ الحقُّ واضحٌ فيه كهذا الوقت، الناس رجُلان، مؤمنٌ وكافر، شهواني ورحماني، مستقيمٌ ومُنحرف، صادقٌ وكاذب، وليٌّ أو إباحي، الحقّ واضح في الأرض كلها، أينما ذهبت الحق واضح (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) .
التواصل الذي نجده الآن..!
(( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ الله به الكفر ))
[ رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي ]
مرة ذهبت إلى مدينة سيدني في أستراليا، وثمة إذاعة كأنك في دمشق، القرآن الكريم، والأحاديث الدينية، وكل شيءٍ يدعو إلى الله عزَّ وجل، في أقصى أقصى الدنيا.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) حينما تنطلق من حبك لذاتك ينبغي أن تؤمن (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يُعامله بالحكمة التي تليق بكماله جلَّ جلاله.
الملف مدقق